الجمعة، مارس ٢٥، ٢٠١١
حكاية اندونيسيا: أرويها للخائفين من الإخوان وعلى الإخوان
بقلم : د. ياسر نجم
لماذا تركيا فقط ؟
لا أعرف يقينا لماذا يحلو للجميع استحضار نموذج حزب العدالة والتنمية التركى دون غيره فى معرض الحديث عن التجارب
الديموقراطية للأحزاب الإسلامية..
ربما يحلو هذا للعلمانيين لأن البيئة السياسية التركية بصرامتها العلمانية التى يحميها الجيش تعد قدوة لهم..وما حزب العدالة والتنمية فى تلك البيئة إلا حزب أقل علمانية أكثر منه حزب إسلامى..
وربما يعجب الإسلاميون بكفاح أردوغان ورفاقه الذين نجحوا برغم كل الإضطهاد فى الصعود وتقليم أظافر العلمانية الواحد بعد الآخر وإعادة الوجه الإسلامى لتركيا شيئا فشيئا...
أما الموضوعيون المحايدون..فلعلهم يجدون فى تركيا وشعبها قربا من مصر بحكم العلاقات التاريخية والموقع الجغرافى والمشترك من الدين والعادات والتقاليد...
ولكن الحقيقة أن السياق التاريخى للتجربة الديموقراطية التركية وبيئتها السياسية الحالية - وهى المقاييس الأهم فى هذا الصدد - تختلف كل الإختلاف عن الحال المصرى..
كانت تركيا قائدة لدولة الخلافة ثم حدث فيها إنقلاب منذ ما يقارب القرن من الزمان..لم يكن إنقلابا على الحكم فحسب..بل كان إنقلابا على كل التراث والمكون القيمى للمجتمع التركى..بدءا من حروف اللغة حتى قوانين الأحوال الشخصية مرورا بالأزياء الوطنية..
كان إنقلابا بقوة الحديد والنار على الشعب قبل نظام الحكم..وظل هذا الإنقلاب محروسا بالمدفع حتى يومنا هذا..وقد مشى حزب الرفاه ومن بعده حزب العدالة والتنمية على كل الحبال لكى ينجو من مقصلة الجيش التى أطاحت بكل من حاول تطبيق أى توجه إسلامى حتى ولو كان هذا برضا الأغلبية الشعبية..وهو ما يتعارض مع مبادىء الديموقراطية..ويخرج بتركيا فى الواقع من زمرة هذه الدول...
ولا أجد عن نفسى تشابها فى ذلك كله بين تركيا من جهة ومصر من جهة أخرى سواء فى عهد الأنظمة السابقة أو عهد ثورة 25 يناير 2011..
التشابه بين مصر واندونيسيا
يغفل المهتمون هنا تجارب أخرى لأحزاب إسلامية فى بيئات سياسية وسياقات تاريخية أقرب بكثير لواقعنا من المثال التركى..ومن أهم هذه التجارب التجربة الاندونيسية..التى لم تحظ على الإطلاق بنصيب يليق بها من المتابعة والتحليل فى عالمنا العربى..ولا أدرى إن كان السبب هو بعد المسافة الجغرافية أم أننا نعتبر أن شعوب جنوب شرق آسيا من طينة أخرى غير طينتنا..مع أن اندونيسيا هى أكبر دولة إسلامية على الإطلاق من حيث عدد السكان الذين يزيدون عن 230 مليون نسمة ولا يفوقها فى هذا التعداد على مستوى العالم إلا الصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية.
أرى من المناسب هاهنا أن أسرد أوجه التشابه بين أندونيسيا ومصر:
- 90% تقريبا من الشعب الاندونيسى مسلمون
والنسبة فى مصر تتراوح ما بين 90 و94% حسب اختلاف التقديرات..
- تحررت اندونيسيا من الإحتلال سنة 1945 وحكمها العسكر منذ ذلك التاريخ..
وتحررت مصر سنة 1954 وحكمها العسكر منذ ذلك التاريخ..
- حكم سوهارتو اندونيسيا لمدة 31 سنة فى ظل سيطرة حزب واحد على السلطة هو حزب جولكار..الذى أفسد الحياة السياسية ونهب قادته بمن فيهم سوهارتو أموال الدولة خاصة عندما عين أفراد عائلته على رأس الحزب فى أيامه الأخيرة..وتم منع قيام أية أحزاب أخرى باستثناء حزبين ديكوريين..وكانت الطامة الكبرى سوء إدارة الإقتصاد خلال الأزمة الأسيوية فى التسعينات
وحكم مبارك مصر لمدة 30 سنة فى ظل إنفراد الحزب الوطنى بالسلطة وإفساده للحياة السياسية ونهب قادته للمال العام خاصة بعد تعيين جمال مبارك أمينا للجنة السياسات..وتم السماح فقط بقيام الأحزاب الديكورية ..وكانت الطامة الكبرى فى تتابع وطأة الأزمات الإقتصادية على المواطن البسيط..
كان اضطهاد الشيوعيين والإسلاميين سمة مميزة لحكم العسكر فى اندونيسيا..خاصة حركة نهضة العلماء الإسلامية التى تأسست سنة 1926
وكان إضطهاد الشيوعيين والإسلاميين سمة مميزة لحكم العسكر فى مصر..خاصة جماعةالإخوان المسلمين التى تأسست سنة 1928..ولكن الفارق بين الإخوان ونهضة العلماء أن الأخيرة توجهها صوفى..
هيمن الجيش فى أندونيسيا منذ تحرير البلاد على الحكم بشكل كامل..ليس فقط من خلال شخص الرئيس ولكن أيضا من خلال احتلال كل المناصب الهامة فى المحليات والشركات الحكومية الكبرى والوزارات السيادية..حتى فى المجالس التشريعية..
وفى مصر..تولى اللواءات الحاليون والسابقون نفس المناصب باستثناء المجالس التشريعية...كما أحكم الجيش قبضته على نصيب سرى كبير من ميزانية الدولة فضلا عن أراضيها وممتلكاتها..
انتهى حكم سوهارتو فى 21 مايو سنة 1998 عندما أجبرته ثورة الشباب على التنحى وكانت إيذانا بفجر الديموقراطية فى اندونيسيا
وانتهى حكم مبارك فى 11 فبراير سنة 2011 عندما أجبرته ثورة 25 يناير على التنحى ليبدأ عصر الديموقراطية الحقيقية فى مصر..
التجربة الاندونيسية
ولكن كما عودتنا طبائع الكون..لا توجد حالتان متماثلتان تماما..
التشابه بين السياق الاندونيسى والسياق المصرى لا يعنى عدم وجود إختلافات جوهرية أفضل أن أتطرق إليها فى اطار حكايتى عن الأوضاع السياسية فى أندونيسيا سواء قبل أو بعد الثورة الإندونيسية التى سبقتنا إلى الديموقراطية بثلاث عشرة سنة:
كان البناء السياسى لاندونيسيا قبل الثورة (ومازال) أقل ديموقراطية من نظيره المصرى...وتكون هذا البناء من:
- رئيس جمهورية له صلاحيات واسعة للغاية ويجمع إلى جانبها صلاحيات رئيس الوزراء
- الجمعية الإستشارية الشعبية وتتألف من 1000 عضو يشكل أعضاء مجلس النواب نصفهم..والنصف الآخر عبارة عن خليط من رجال القوات المسلحة وأعضاء الأحزاب وممثلين للمقاطعات والأقاليم..وهذه الجمعية هى التى تنتخب رئيس الدولة ونائبه وهى التى تضع الدستور والسياسات العامة للدولة
- مجلس النواب ويضم 425 عضوا منتخبا و75 عضوا من رجال القوات المسلحة يعينهم رئيس الجمهورية
وهو المجلس التشريعى للبلاد لكن لرئيس الجمهورية حق الفيتو على كل قراراته
- 3 أحزاب..
حزب جولكار المحتكر للسلطة
وحزب التنمية الإتحادى والحزب الديموقراطى
- وثيقة البانجاسيلا وتحتوى خمسة مبادىء تحكم الساحة السياسية الانونيسية
* الإيمان بالله الواحد
*الإيمان بالإنسانية العادلة المتحضرة
* الإيمان بالوحدة الاندونيسية
* الإيمان بالشورى النيابية الموجهة بالحكمة* الإيمان بالعدالة الإجتماعية
- الدستور المكون من 37 مادة
بعد الثورة تمت الإطاحة بالرئيس سوهارتو وتولى مكانه نائبه يوسف حبيبى..الذى ما لبث أن تخلى عن مكانه بأمر الجمعية الإستشارية الشعبية لأول رئيس اندونيسى من الإتجاه الإسلامى وهو عبد الرحمن وحيد رئيس حركة نهضة العلماء التى سبق ان اضهدها نظام سوهارتو..ثم إلى أول امرأة ترأس اندونيسيا: ميجاواتى سوكارنو
ولم يبدأ الشعب الاندونيسى فى ممارسة حقه فى إنتخاب رئيسه بشكل مباشر إلا فى سنة 2004..بعد الثورة بست سنوات..بانتخاب رئيسه الحالى سوسيلو يوديونو وهو من خلفية عسكرية أيضا..
تمسك الشعب الاندونسى بعد الثورة بمبادىء البانجاسيلا الخمسة..لإيمانه بها رغم أنها وضعت فى عصر الديكتاتورية..وتدريجيا تم إلغاء تواجد رجال الجيش فى الجمعية الإستشارية وفى مجلس النواب..
وعلى الرغم من أن الشعب الاندونيسى مازال يكافح لتحقيق المزيد من الإصلاحات السياسية..وعلى الرغم من أن الشيوعية محظورة تماما بأمر الدستور الاندونيسى إلا أن اندونيسيا بالفعل تصنف حاليا على أنها من اكثر دول العالم ديموقراطية..وهى الدولة الوحيدة فى جنوب شرق آسيا التى تصنف من قبل المؤسسات العالمية على أنها دولة (حرة)..ويعود السبب الرئيسى فى هذا لإطلاق حرية الأحزاب..وهو موضوعنا الرئيسى فى هذا المقام...
الأحزاب الإسلامية فى اندونيسيا
بعد ثورة الشعب الاندونيسى سنة 1998 وإطلاق الحريات زاد عدد الأحزاب من 3 إلى 95..
وتم السماح لأول مرة بتكوين أحزاب إسلامية وصلت إلى 16 حزيا..
إضافة إلى حزبين مسيحيين..
وحاليا يشارك فى البرلمان 17 حزبا منها 5 أحزاب إسلامية متنوعة فى أفكارها وسياساتها..
احتفى الاندونيسيون كثيرا بظهور أحزاب إسلامية...وعلقوا عليها آمالا عريضة فى إصلاح أحوالهم إصلاحا شاملا من خلال (أسلمة) الدولة وتطبيق الشريعة..
ووصل تمثيل الأحزاب الإسلامية فى البرلمان إلى 25% فى انتخابات سنة 1999 ثم 30% فى انتخابات سنة 2004..
فى بداية عهدها بالديموقراطية...كان هم الأحزاب الإسلامية إضفاء مظاهر إسلامية جديدة على الحياة مثل إحلال حروف عربية محل الاندونيسية وتسمية الشوارع بأسماء إسلامية وتحملات لمنع الأفلام الإباحية وتحريم الخمور والقمار وركزت الأحزاب الإسلامية على تطبيق قوانين محلية تجبر النساء على الحجاب وتحارب الزنا..وفى هذا الإطار تم إقامة عقوبات جلد للنساء..وفى احدى الحوادث كانت كل جريمتهن الوقوف ليلا فى انتظار حافلة تقلهن للعمل فى أحد المصانع..وتفى حادثة أخرى تم القبض على مجموعة من نزلاء الفنادق بحثا عن المتورطين فى علاقات غير شرعية..
فى الوقت نفسه ثبت تورط العديد من الإسلاميين فى تلك الأحزاب فى جرائم فساد واستيلاء وإهدار للمال العام ورشوة ومحسوبيات..وأصابت مثل هذه الوقائع الشعب بنوع من خيبة الأمل فى أداء هذه الأحزاب..
لم تحل ديموقراطية اندونيسيا وأحزابها مشكلة الفساد فيها..والحقيقة أن ترتيبها تبعا لمنظمةالشفافية العالمية يتأخر عن مصر وهى تأتى حاليا فى المرتبة 110 على العالم من حيث منع الفساد..
أما الإخوان المسلمون..فوجودهم ليس له جذور عميقة فى المجتمع الاندونيسى كما هو الحال فى مصر والدول العربية..
تنظيمهم هناك حديث النشأة..يعود فقط لعهد ما بعد الثورة..وحزبهم هو حزب العدالة والرفاه الذى يضع محاربة الفساد على رأس أولوياته..ويصفه المراقبون ب(الحزب النظيف) إذ أنه الحزب الوحيد بين كل الأحزاب..إسلامية وعلمانية..الذى لم تمسه أو أى من أعضائه اتهامات بالفساد..
حصل حزب العدالة والرفاه على 2% من مقاعد البرلمان سنة 1999 ثم 8% فى 2004..وتكرر الأمر نفسه فى 2009..
وهى نسبة ليست بالقليلة..تبوأ بها الحزب المرتبة الرابعة فى الانتخابات التى فاز بها الحزب الديموقراطى..حزب الرئيس برصيد 20%..ولم ينجح الرئيس فى الإستقرار بمنصبه إلا من خلال التحالف مع حزب العدالة والرفاه على حساب حزب جولكار الذى حظى ب14% من الأصوات..وقد صرح المتحدث الرسمى للرئاسة وهو علمانى قائلا: لكى تفوز لابد أن تتجه للوسط.الذى يصهر المثل الإسلامية ببرامج للحلول الإقتصادية..
وكان عدم الإعتراف بإسرائيل شرطا من العدالة والرفاه للتحالف بينهم وبين الحزب الديموقراطى..
ليس هذا فحسب...ولكن وصل رئيس الحزب..هدايت نور إلى منصب رئيس الجمعية الاستشارية الشعبية..
أما مرشح العدالة والرفاه لمنصب محافظ العاصمة جاكرتا فقد حصل على 43% من الأصوات فى مقابل 57% حصلت عليها باقى الأحزاب مجتمعة..
أما الأحزاب الإسلامية الأخرى فقد تراجعت نسبها المرة تلو الأخرى..من انتخابات 2004 لانتخابات
2009
وهو تقهقر سياسى عاكسه تقدم للقيم الإسلامية فى المجتمع الإندونيسى..
وخلاصة موقف التيارات الإسلامية فى اندونيسيا حاليا أنها فاعلة جدا على صعيد الجمعيات الدعوية ,منظمات المجتمع المدنى...وهى لم تستطع أن تنفرد بالسلطة ولكنها تمكنت من تشكيل قوة سياسية ضاغطة عن طريق حزب واحد هو حزب العدالة والرفاه..مع تراجع لتأثير الأحزاب الاخرى..والسبب الوحيد لهذا ليس شعارا إسلاميا ولا مظهرا إسلاميا ولا تطبيق نصى لقوانين الشريعة..وإنما مقاومة الفساد وتحسين حياة المواطنين وهو هدف توافقت عليه القوى الإسلامية والعلمانية معا..ولكن نجح فيه حزب العدالة والرفاه وحده لأنه طهر نفسه أولا من كل الشبهات...وهو نفس ما فعله حزب العدالة والتنمية فى تركيا..
تتجه الساحة السياسية الاندونيسية حاليا لتوافيق وتباديل تتخطى الأيديولوجيات..تحالفات لأحزاب إسلامية مع أخرى علمانية..اعتدال ووسطية من كل الاحزاب تجاه الآخر المختلف فكريا..وتمارس الأحزاب الإسلامية وإن لم تصل للسلطة نشاطا له قوته من خلال فرض شروطها التى تتوافق بالطبع مع أيديلوجياتهم على القوى المتحالفة معهم حتى وإن كانت علمانية..
هل يكون لمستقبل مصر الديموقراطى فى ظل الحرية وصعود الأحزاب الإسلامية مستقبلا شبيها بنظيره الاندونيسى؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق