بقلم : فضيلة الدكتور محيي حامد
ونحن إذا كنا نريد نهضة لأمتنا الإسلامية وإعادة مجدها ومكانتها الرائدة بين الأمم، فعلينا أن نتلمس دروس الهجرة وما فيه من معالم وخطوات، كما يجب علينا أن نسعى لتحقيق هذه المقومات في أنفسنا وواقعنا ومجتمعاتنا حتى يتنزل علينا نصر الله ووعده لنا بالتمكين @831;وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا@830; (النور: 55).
ومن مقومات النصر التي نستخلصها من الهجرة ما يلي:
1- الإخلاص والتجرد
لم تكن الهجرة بالأمر السهل على النفس البشرية، ففيها مغادرة الأرض والأهل والمال والديار والتخلي عن ذلك كله من أجل العقيدة وابتغاء مرضات الله، ولقد كانت مواقف الصحابة الكرام مليئةً بهذه المعاني الإيمانية، ولقد وصفهم الله تعالى بالإخلاص وابتغاء مرضاته ورجاء رحمته في قوله @831;لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ ورِضْوَانًا ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ@830; (الحشر: 8)، وفي قوله @831;إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ@830;(البقرة: 218)، وهذا يتطلب من العاملين للإسلام أن يحددوا غايتهم وأهدافهم ووسائلهم بكل معاني الإخلاص والتجرد، دون نظرٍ لمغنمٍ أو جاهٍ أو منصبٍ، ولا يبقى إلا العمل الصالح المخلص لله سبحانه وتعالى.
2- استشعار معية الله وحسن الصلة به
لقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- وثيق الصلة بربه، ومستشعرًا معية الله في كل الخطوات والأسباب التي اتخذها للهجرة، فلم يركن إلى الأسباب ولكن إلى رب الأسباب، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- يغادر بيته ويخترق صفوف المشركين، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو @831;وجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ@830;(يس: 9)، فلم يبقَ منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، وعندما أحاط المشركون بالغار وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- الصديق بمعية الله لهما "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"، وكما ذكر الله تعالى @831;إلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ@830; (التوبة: 40).
وهكذا نرى أن صاحب الدعوة يستمد العون إلا من الله @831;وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا@830; (الإسراء: 80)؛ ولذا يجب على صاحب الدعوة أن تكون صلته بالله دائمةً، وحاله مع الله في ازدياد، مستشعرًا معية الله في كل الأحوال والأوقات، وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
3- الثقة واليقين في نصر الله
لقد حاول المشركون من قبل وفي كل وقت تعويق مسيرة الدعوة عن الوصول إلى أهدافها المنشودة، ولكننا نرى في مواقف الهجرة المباركة كيف كانت ثقة النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام في نصر الله، رغم كل أنواع المكر والكيد التي تعرضوا لها @831;وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ@830; (الأنفال: 30).. إنه اليقين الذي يملأ القلب بالثقة في نصر الله.. إنه الإيمان الذي يملأ خلجات النفس ويجعلها مطمئنةً بوعد الله للمؤمنين بالنصر والتمكين.
4- الإرادة القوية والهمة العالية
وفي قصة أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها- نرى نموذجًا رائعًا للإرادة القوية والهمة العالية، ففي أثناء الهجرة فرَّقت قريش بينها وبين زوجها أبى سلمة وابنها، ومن أجل أن يُثنوهم عن الهجرة، ولكن يسجِّل أبو سلمة أروع صور التضحية والتجرد فيكون أول مهاجر يصل إلى أرض الهجرة رغم أنَّه فقد الزوجة والولد، وأيضًا نرى أمَّ سلمة تواصل مسيرة الهجرة بعزم صادق وإرادة قوية لم يتطرق إليها ضعف حتى تلحق بزوجها مع ابنها، رغم كل ما تعرضت له هي وزوجها وابنها، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصمِّمين على المضيِّ في طريق الإيمان، وهذا يجب علينا أن نكون من أصحاب الهمم العالية والقوة النفسية العظيمة.
5-الجهاد والتضحية
وفي الهجرة تظهر مواقف عديدة من التضحية والجهاد، فنرى ما فعله عليٌّ- رضي الله عنه- ليلة الهجرة من نومه على فراش الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم أنَّ سيوف قريش ستهوي عليه، ولكنه الحب الذي يولِّد الفداء لنبي الأمة وقائدها، كما تبرز معاني التضحية بالمال والنفس في مواقف عديدة للصحابة الكرام، فهذا صهيب- رضي الله عنه- لما أراد الهجرة وأرادت قريش منعه، فما كان منه إلا أن ضحَّى بماله كله في سبيل هجرته إلى الله عز وجل.
ولقد وصف الله تعالى جهاد وتضحية المهاجرين بقوله @831;الَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُون@830;َ (التوبة: 20)، وفي قوله@831;لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ@830; (التوبة: 117)، وهذا يتطلَّب منا أن نكون أصحاب جهاد وعطاء وبذل وتضحية حتى نبلغ الغاية ونحقق الأهداف ويتحقق النصر بإذن الله @831;والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ@830; (العنكبوت: 69).
6-الصبر والثبات
لقد تعرض النبي- صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام قبل الهجرة إلى كثير من الإيذاء والاضطهاد، ومحاولة صدهم عن دينهم، ورغم هذا كله لم تلِنْ لهم قناة، وظلوا على الحق ثابتين وعلى الابتلاء صابرين حتى أذِن الله لهم بالهجرة، ولقد وعدهم الله تعالى بعظيم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة؛ جزاءً لصبرهم وثباتهم @831;والَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ولأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ@830; (النحل: 41- 42)، والآن تتعرض الأمة الإسلامية إلى كثير من المحن والابتلاءات والتي تحتاج منا إلى الشعور بالمسئولية الضخمة التي تقع على عاتقنا، كما تحتاج إلى الصبر والثبات؛ حتى نستطيع أنَّ نرد كيد الكائدين، ونرفع راية الإسلام عاليةً.
7- الإعداد والتخطيط
إن التخطيط جزءٌ من السنة النبوية واتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولقد أعد النبي- صلى الله عليه وسلم- للهجرة واتخذ من الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى نجاحها، فبعد أن اتخذت قريش قرارَها بقتل النبي- صلى الله عليه وسلم- أذِن الله لنبيه بالخروج وحدد له وقت الهجرة، بعد ذلك ذهب النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر- رضي الله عنه- وأعد معه مراحل وخطوات الهجرة.
ولما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعلم أن قريشًا ستجدُّ في الطلب سلك النبي- صلى الله عليه وسلم- الطريق الذي لا يخطر ببالهم جنوب مكة، رغم وعورة الطريق وصعوبة السير فيه، ومن هذا نستخلص أهمية التخطيط والإعداد والترتيب الجيد لكل أعمالنا، مع بذل كل الجهد وتحمل المشاق في سبيل الوصول إلى أهدافنا القريبة والبعيدة.
8- التنظيم الدقيق والتوظيف الأمثل
لقد حرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على التنظيم الدقيق للهجرة، رغم ما كان فيها من صعاب، فنجد حرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على الانتقاء الجيد والتوظيف الأمثل لكل مَن عاونه في أمر الهجرة، علي بن أبي طالب ينام في فراش الرسول، وأبو بكر رفيق الطريق والصحبة، وعبد الله بن أبي بكر يأتي بالأخبار، وأسماء ذات النطاقين تحمل المؤن والزاد، وعامر بن فهيرة يبدد آثار الأقدام، وعبد الله بن أريقط دليل الهجرة البصير.
لقد استطاع النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يوظِّف كلَّ فرد في العمل المناسب له، والذي يجيد القيام به على أحسن وجه، كما كان للشيخ والشاب والمرأة والغلام والخادم دور محدد؛ مما جعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة لتحقيق الهدف الكبير، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له.
ومن هنا نتعلم أهمية معرفة الكفاءات والقدرات، وكيفية توظيفها لخدمة الإسلام بشكل متناسق ومتكامل؛ مما يجعل لجميع الشرائح الاجتماعية دورًا محددًا في بناء الأمة والنهوض بها.
9- الحب والأخوة الصادقة
وتتجلى معاني الحب العميق من خلال مواقف أبي بكر الصديق مع الرسول الأمين أثناء الهجرة في خوفه وإشفاقه على حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- وحرصه على إلا يُصاب النبي بأذى، ولما انتهَيا إلى الغار قال أبو بكر- رضى الله عنه- للنبي- صلى الله عليه وسلم-: "والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك"، وكذلك تظهر مشاعر الحب الصادق والفرحة الغامرة عند استقبال أهل يثرب من المهاجرين والأنصار للنبي- صلى الله عليه وسلم- بعد وصوله إليهم سالمًا.
كما تظهر معاني الأخوَّة الصادقة بين المهاجرين والأنصار؛ حيث التقت تلك القلوب والأرواح على رباط العقيدة والحب في الله، فنرى نماذج فريدة من إيثار الأنصار وعفة المهاجرين @831;والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ@830; (الحشر: 9)، ولقد كانت للعقيدة الصحيحة السليمة أثرٌ كبيرٌ في تحقيق التآلف والترابط بين القلوب والأرواح كما ظهر هذا جليًّا في الجمع بين الأوس والخزرج بعد طول ثأر ومعارك بينهما @831;لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ@830; (الأنفال: 63).
وهذا يتطلَّب منا أن نعمل على تقوية صلة الحب والأخوة الصادقة فيما بيننا، فهي أساس لقوة المسلمين ووحدتهم.
10-الأمانة والوفاء
وهكذا تظهر متانة الخلق عند الشدائد، ويتجلى خلق الأمانة في أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- لعلي- رضي الله عنه- بتأدية الأمانات لأصحابها في مكة، على الرغم من الإيذاء والظروف القاسية التي تعرض لها النبي- صلى الله عليه وسلم.
لقد كان درسًا بليغًا في أداء الحقوق والأمانات حتى ولو كان الإنسان في أصعب الظروف، كما يتجلى خلُق الوفاء والحب للوطن فيما عبَّر عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله عن مكة:"والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"، ورغم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج منها مهاجرًا بعد سلسة من الاضطهاد والعناد من قريش إلا أنَّه ظل وفيًّا ومحبًا لها.
لعلنا نستفيد من هذه المواقف، ونتعلم كيف يكون الدعاة والمصلحون أوفياءَ لربهم ودينهم ودعوتهم، كما هم أمناء لشعوبهم وأوطانهم وأمتهم.
إنَّ مقومات النصر التي نلتمسها في ظلال ذكرى هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام جدير بنا أن نعمل على ترسيخها في نفوسنا ونفوس أبناء أمتنا؛ حتى نكون بإذن الله وفضله من الذين صدق فيهم قول الله تعالى: @831;والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ@830; (التوبة: 100).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق